جاري تحميل ... شبوة نيوز | اخبار شبوة

شبوة نيوز |  اخبار شبوة

شبوة نيوز | موقع إخباري شبابي مستقل يهتم بنقل الأخبار، ويعتني بشكل خاص بالأحداث والتطورات الجارية بمحافظة شبوة .. المصداقية والحيادية في نقل الخبر

إعلان الرئيسية

المشاركات الشائعة

آخر الاخبار

إعلان في أعلي التدوينة

قصص

ناقل الموتى ، هادي جمعان

          

قصة حقيقة
كاتبها / عيدروس سالم الدياني
10 سبتمبر 2018

" القصة اهداء لهادي محسن جمعان الذي يقوم بعمل انساني نبيل بإعادة المفقودين والجرحى ،والموتى أيضا لذويهم "

  فقدتَ حاسة الشم بعد شهور من الحرب، وكان اخر شي شممتَه هو رائحة جثة من تلك الجثث التي تنقلها " أرأيت كيف أننا نحن البشر مقرفون جدا".  تتذكر جيدا أنك وضعت تلك الجثة في حقيبة  سيارتك ، ثم مالبثت الرائحة أن تسللت الى أنفك وإلى الطريق وشمها كل العساكر في نقاط التفتيش .وحتى أرباب المحلات التي مررت بها في طريقك ، كلهم غطوا أنوفهم بأطراف عمائمهم . كانت تلك آخر مرة تشم فيها شيئا ، وإنك لتأسف كثيرا أن خاتمة شمك للأشياء كانت رائحة جثة متحللة . 

  غرزت الحرب رماحها في صدور الرجال، وتناثروا على سطح الأرض في مناطق الصراع المنتشرة في وسط البلاد وغربها بل وشرقها وشمالها ايضا. 
حين سألتك ذات يوم "لم تقوم بحمل الجثث إلى أهلها" أطرقت قليلا رأسك وكأنك تفكر ماهي الإجابة المناسبة، فيبدو أنه كان لديك أكثر من إجابة لتقولها لي ، ولكنك لم تجب ،بل رددت على سؤالي بسؤال:_لو نطق أصحاب هذه الجنائز ، فما كانوا سيطلبون ؟  تعجبت من سؤالك،  وحينها أجبت على نفسك "كانوا سيطلبون قبورا نضع فيها أجسامهم قبل أن تتيبس في الثلاجات، أو تنهشها الكلاب والضباع في رؤوس الجبال وفي الصحاري والأودية ، أليس من واجبنا اذن أن نحقق للميت حلمه ؟"     
يبدو أنك اكتفيت بإجابة واحدة، حينها كان جرس هاتفك يرن بنغمة حزينة، تشبه أنين الثكالى، وحين أجبت، سمعت امرأة على الطرف الاخر، كانت كلماتها تختلط بالحزن والدموع، أخبرتك أنها فقدت ابنها وتسألك بالله أن تبحث عنه  ، وقبل أن تقفل سماعة هاتفك ، دونت اسما جديدا في مذكرتك ، لتواصل بعدها رحلة بحث عن مفقود آخر في بلد يعج بالفوضى والقتل والتدمير .   
قلت لك إن قلبك لم يعد رقيقا، ولم تعد المواقف المحزنة تبكيك كما كنت سابقا، ولكنك لم توافقني، فقلت إنك مازلت تبكي في مواقف كثيرة، لكن دمعاتك تسقط في قلبك دون أن تمر بخديك .  
تبكي بصمت عند كل أب وأم وزوجة وأخ فقد له عزيزا، تسلمهم فقيدهم ويبكون فتبكي معهم ولكن دون أن يلحظوا ذلك  .   
غراب ينعق من على سور مدرستنا، وكلب يمر أمامنا،  وأنا وأنت نجلس على طوبتين صغيرتين بجانب مقهى صغير ببلدتنا القصية، وقبل أن تكمل شايك الأسود الثقيل نهضت قائما وكأنما أحد يناديك ، سألتك إلى أين ؟أجبت "سأعود بإذن الله "  بحثت عن فقيد تلك المرأة التي حادثتك بكل مالديك من جهد ومعرفة، في المستشفيات ومراكز الاعتقال ، وثلاجة الموتى، ولكن لا أثر!   ولم يبق أمامك سوى خيار واحد ، أن تبحث عنه في المكان الذي كان يقاتل فيه، وقبل ذلك سألت رفاقه ،فكان جوابهم أنهم انسحبوا حين هوجموا بغتة، وكان الوقت ليلا، ولم ينتبهوا لفقده إلا في الصباح، وحين انتقلت إلى الطرف الاخر من الجبهة، كان الأمر أشد تعقيدا، فقد ظنوك جاسوسا متخفيا ، ولم تشفع لك إلا معرفتك القديمة بأحد قادتهم .             بحثت في أماكن كثيرة في معسكره السابق ، ولكن دون جدوى، وبقي شِعب يسار المعسكر، لكن لا أحد يستطيع الولوج إليه كما أخبروك، إن عساكر من المتقاتلين يعتلون الجبال المحاذية، وعند رؤية شيء ما يتحرك في الشعب فإنهم يطلقون عليه الرصاص .      
مكثت عندهم إلى الليل ، وبعد صلاة العشاء جلست تفكر ما ستعمل ؟ وماذا تقول لأمه المسكينة؟ وهل يضيع عملك لأيام هدرا ؟نظرت إلى الشِعب ، كان مظلما وموحشا، ومخيفا.           خطوت بضع خطوات ، وقفت ... تشجعت قليلا فمضيت ، ابتعدت عن المعسكر ودخلت في الشعب، مشيت بمهل كي لاتُسمع أحدا وقع أقدامك، وكي لاتنزلق حجارة فتحدث ضجة يتنبه لها أحد من  الفريقين ، كان مصباحك معلق بحزام إزارك، ولكنك لن تستطيع استخدامه، فمضيت دونما هداية ، ترجو أن تجد مايدلك عليه في طريقك.      
 حين ترى سوادا تخر نحوه، لتكتشف أنه شجرة أو قطعة قماش ملقاة على الأرض، وحين غلبك التعب وبلغ منك الجهد مبلغه ، قررت العودة بدونه، وبعودتك تتعثر فتدمي الحجارة ساقك، وحين تجلس لتربطه ، ترى الجثة على مقربة منك .      
عدت بها ملفوفة بقطعة قماش أسود، فتحت عن وجه الميت ، لتراه بوضوح، رغم تغير بعض الملامح ، إلا أن شامة سوداء تحت فمه، ولونه كانا كافيين لتمييزه ، فلم يكن هو الشخص الذي تبحث عنه ، بكى أحد الجنود وجثى على ركبتيه ، ربما كان رفيقه في  مكان ما في هذه الدنيا .
  اتصلت علي لتخبرني بما حدث ، وأنك تنوي الرجوع للشِعب للبحث عنه مرة أخرى .
    ثم لم أسمع عنك شيئا ، هاتفك مغلق، واخبارك انقطعت ، لم يرك أحد ولم يسمع عنك شيئا ، وصرت أحد المفقودين الذين يبحث عنهم أهاليهم .
  حين زرتُ أبويك رأيتهما في حال من الحزن الشديد ، وأمك لم تكف عن البكاء منذ اختفائك ،  توسلاني للبحث عنك والحقيقة أنني كنت أنوي البحث عنك ، فأنت تعني لي الكثير ، ولست صديقا فحسب ، وقد زرتهما لآخذ صور لك ولأوراقك الثبوتية.
   بحثت عنك كثيرا ، ووصفت شكلك لهم ، قلت لهم أنك أسمر اللون ، لك شعر أسود ناعم ، والصلع بدأ يهاجم رأسك من الأمام ، قلت لهم أنك نحيف الجسم ، متوسط الطول ، قلت لهم أنك قليل الكلام ، وحكيت لهم أنك تحمل حزنا كبيرا في عينيك لمن يتأملهما ، قلت لهم أن لك نُدبة في جبينك ، هي أثر لإصابة في طفولتك ، قلت لهم أنك كنت تبحث عن المفقودين في هذه الحرب ، حتى غدوت مفقودا مثلهم ، وقد جئت لأبحث عنك .
  أريتهم صورك ، تلك التي تبتسم فيها وتلك التي لم تستطع أن تبتسم ، صور بريئة لطفولتك وصور بريئة أخرى لشبابك ، لقد كنت بريئا في عيني ، حتى وأنت بشارب عريض  .
جميعهم نفوا انهم يعرفون مكانك، ولكنني لم أيأس، فذهبت للمعسكر الذي هاتفتني منه، وحين دنا الليل تلمست طريقي إلى الشِعب الذي دخلته، وأمضيت ليلتي تلك بطولها أبحث عنك دون جدوى ، بل إنني أضعت طريقي، ولم أدر بنفسي صباحا إلا في قبضة جنود آخرين ، ضربوني قليلا ، قبل أن يعرفوا حقيقة أمري ، عرضت كل ما أحمله عليهم ، تمعنوا صورك كثيرا ، ثم أخبروني أنك كنت هنا ، وأنهم نقلوك مع الأسرى، و لم تكن تحمل مايثبت هويتك ، فظنوا أنك مقاتل من المتمردين ، تحاول فقط أن تكذب، لتنجوا من الأسر .
  كانت فرحتي بك كبيرة جدا ، ولكنني حين سألتك كيف حالك ؟
أخبرتني أنك بخير ، غير انك فشلت في أن تجد ابن تلك المرأة التي هاتفتك يومها ...  وحين أعلمتك أنه قد عاد يمشي على قدميه ، تهللت أساريرك ، ابتسمت وقلت "الحمد لله " .
   مررنا بمطعم على طريق عودتنا ، وقبل أن ندخله ،أمسكت بيدي وقلت :" أتدري ..."
ثم توقفت ، ونظرت  إلي مبتسما
"إنني الان أشم رائحة الطعام " لقد عادتك حاستك حين ابتعدت عن رائحة الموتى.
"أتحس بالفرق "
"نعم ، فاللقاء جميل بعد شوق عارم "
"هكذا هي الأشياء نُحس بقيمتها حين فقدها فقط" 
"سيكون أشهى طعام أذوقه بحياتي"

الوسوم:

إعلان في أسفل التدوينة

إتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

شبوة نيوز | موقع إخباري شبابي مستقل يهتم بنقل الأخبار، ويُعتنّي بشكل خاص بالأحداث والتطورات الجارية بمحافظة شبوة .. المصداقية والحيادية في نقل الخبر ,